الوحدة الفلسطينية- ضرورة حتمية لمواجهة تحديات طوفان الأقصى.

منذ أكثر من قرن، انطلقت مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، ولم تشهد أي فترة في التاريخ الحديث، منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، غيابًا لموجات النضال والمقاومة، بل تزداد المقاومة الفلسطينية شراسةً وقوةً مع مرور الأيام.
على الرغم من الأداء البطولي والعظيم الذي قدمه الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة في معظم مراحل النضال، إلا أن الأداء السياسي كان غالبًا مضطربًا وضعيفًا، وفي بعض الأحيان مأساويًا. هذا الضعف يعود بلا شك إلى عوامل موضوعية عديدة والظروف السياسية الإقليمية والدولية التي صاحبت تلك الأحداث، مثل الوهن العربي والإسلامي، والانحياز والدعم الغربي للكيان الصهيوني، ولكنه يعكس أيضًا أزمة داخلية عميقة الجذور في القيادة السياسية الرسمية للشعب الفلسطيني، والتي تميز أداؤها بالتأثر الكبير بالضغوط الخارجية، والتعجل في محاولة اقتناص ثمار النضال.
اليوم، وفي خضم معركة "طوفان الأقصى" الملحمية، نواجه تحديًا تاريخيًا جديدًا، يرتبط بشكل كبير بأداء القيادة السياسية الفلسطينية، وقدرتها على الاستفادة من الأداء الشعبي والمقاوم الاستثنائي في هذه المعركة، حيث يتزامن ذلك مع تحول ملحوظ في مكانة القضية الفلسطينية لدى شعوب العالم المختلفة، وعدد كبير من الدول.
فالمسيرات الحاشدة لا تنقطع في العديد من دول العالم، والاحتجاجات الطلابية تتصاعد في جامعات عالمية مرموقة، وخاصة في الجامعات الأمريكية، وتتنامى أنشطة حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتتعالى الأصوات المطالبة بتفكيك الاستعمار الصهيوني لفلسطين ومواجهته كنظام فصل عنصري بغيض، مماثل للنظام الذي ساد في جنوب إفريقيا لعقود طويلة، كما تتطور مواقف العديد من الدول التي تدعو جهارًا إلى ضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وحقه في إقامة دولته المستقلة.
لقد كشفت هذه الحرب العدوانية الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، وأظهرته ككيان عنصري فاشي متطرف يفيض بالكراهية والإجرام. كل ذلك يصب في مصلحة النضال الفلسطيني العادل، ويدفع بقوة نحو تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية أممية، تحظى بتأييد كل أنصار الحرية والعدالة والمساواة، وهذا الأمر يتطلب أداءً قياديًا فلسطينيًا استثنائيًا ومختلفًا.
فجوة تستدعي ردمها
أثار خطاب رئيس السلطة الفلسطينية أمام القمة العربية في المنامة، وتناوله لموضوع الانقسام، وتحميل حركة حماس مسؤولية استمراره، دهشة واستياء الكثيرين. فقد بدا خطابه وكأنه يقدم مبررًا للعدوان الوحشي الذي يشنه الاحتلال على غزة، وهو ما عرضه لانتقادات وهجوم واسع النطاق، خاصة وأن الخطاب جاء بعد أشهر من تقديم قيادة المقاومة لرؤيتها السياسية، المتوافقة مع الرؤية الوطنية الفلسطينية الشاملة، والتي تم الإعلان عنها رسميًا على لسان رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وتقديمها للعديد من دول العالم، وخاصة تلك التي تقود جهود الوساطة لإنهاء الحرب.
لكن الأهم من ذلك أن هذا الخطاب كشف مرة أخرى عن الأزمة الفلسطينية العميقة، وعن الفجوة الشاسعة بين الواقع الميداني وتوجهات القيادة الرسمية.
إن الحديث عن قيادة فلسطينية موحدة قد يبدو وكأنه جمع بين المتناقضات، والبرامج المتضاربة، والمصالح المتباينة، وهو أمر بعيد المنال وصعب التحقيق، لكن ذلك لا يبرر التقاعس عن العمل المشترك وفقًا للثوابت الوطنية والسياسية الجامعة، وهي كثيرة، وتغليب مصلحة الشعب والجماهير الصامدة والمقاومة، على المصالح الضيقة والمكاسب الحزبية الزائفة.
صحيح أن التحديات التي تعترض طريق توحيد الموقف الفلسطيني كثيرة، بدءًا من الموقف الأمريكي والضغوط الإسرائيلية، والعديد من المواقف الإقليمية المعرقلة، ولكن لا يوجد بديل عن مواجهة هذه العقبات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالصمود والتضحيات والبقاء الوطني، ومواجهة التهجير والتطرف الصهيوني. إن التجربة التاريخية الفلسطينية تؤكد أنه لا مستقبل لمن يذوب في هذه الضغوط ويستسلم لها، فالشعب الفلسطيني لن يغفر، والقوى الخارجية لن توفر الحماية في المستقبل.
الوحدة القيادية السياسية ضرورة مُلحّة
إن وجود قيادة سياسية موحدة ومتناغمة مع موقف شعبها المقاوم، هو شرط أساسي لتحقيق الإنجاز السياسي، والاستثمار الأمثل في النضال والمقاومة لصالح المشروع الوطني. إن ادعاء البعض بأن الانقسام السياسي والقيادي الفلسطيني لا يضر بالضرورة بالحركة الوطنية والمشروع الوطني الفلسطيني، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك باعتبار الانقسام حالة خدمت المشروع، هو أمر لا يستقيم مع المنطق، ولا تؤيده التجربة التاريخية، ولا تجارب الشعوب التي رزحت تحت نير الاستعمار.
وإن القياس على تجارب أخرى، كفيتنام وغيرها – ممن قام الاستعمار فيها بتشكيل حكومات أو هياكل سياسية موالية له وتخدم مشروعه – لا ينطبق على الحالة الفلسطينية، وهو ما ترفضه قيادة الفصائل الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص قيادة المقاومة الفلسطينية.
كما أن كل فلسطيني يشارك في الفعاليات الدولية والمؤتمرات المهنية، ويلتقي بأصدقاء الشعب الفلسطيني من مؤسسات رسمية وشعبية، يُواجَه بسؤال الوحدة الوطنية، والتشديد على ضرورة التوحد لمواجهة المشروع الصهيوني، ولتسهيل مهمة أصدقاء الشعب الفلسطيني وداعميه، وقد تجلى ذلك بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر، في مؤتمر مناهضة الاستعمار والفصل العنصري في فلسطين، الذي انعقد مؤخرًا في جنوب إفريقيا.
ولعل وجود عنوان سياسي موحد، وقيادة منسجمة مع حركة نضال الشعب الفلسطيني، يساهم بشكل فعال في:
- منع الاحتلال وداعميه من الاستمرار في استخدام الانقسام القيادي السياسي كذريعة للتهرب من الالتزام بالقرارات والتحركات والنداءات الدولية المطالبة بوقف الحرب الوحشية على قطاع غزة، وتحقيق بعض الحقوق السياسية.
- إفشال محاولات حكومة الاحتلال لفرض صيغة غير وطنية وغير فلسطينية، إقليمية أو دولية، لتولي مسؤولية ما يُعرف بمرحلة "ما بعد الحرب".
- تهيئة مناخ سياسي يساعد في وقف العدوان، من خلال وجود عنوان فلسطيني واحد معترف به إقليميًا ودوليًا، ويحظى بشرعية وتوافق وطني فلسطيني. تلبية رغبة الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني المتعطشة لتحقيق الوحدة، والارتقاء إلى مستوى صموده وصبره وتضحياته وبطولاته، وبث الأمل والطمأنينة في نفوسه.
- مساعدة جميع أصدقاء الشعب الفلسطيني على المستويين الرسمي والشعبي من خلال توحيد عنوانهم السياسي، ورفع الحرج عنهم في التعامل مع أكثر من عنوان سياسي وقيادي، غالبًا ما تكون متباينة، وفي بعض الأحيان متناقضة.
- إنهاء الارتباك الحاصل لدى مناصري الشعب الفلسطيني والمتضامنين معه ومع قضيته العادلة، والناجم عن طرح أكثر من رؤية وموقف فلسطيني حول القضية ذاتها.
القوى الشعبية الفلسطينية: ربما الحل يكمن فيها
في ظل استمرار الفجوة الناجمة عن غياب قيادة فلسطينية جامعة وكاملة التمثيل ومنسجمة مع حركة الشعب وقواه المقاومة في الميدان، يمكن لقوى المجتمع المدني والمبادرات الوطنية والشعبية أن تساهم في ردم جزء من هذه الفجوة، في بعض الميادين والملفات الهامة، ولو بشكل مؤقت.
يجب على القوى الشعبية أن تنهض بمهمتين تاريخيتين، والتحرك بشكل سريع وفعال للتعامل معهما. المهمة الأولى: ممارسة ضغط جاد وفاعل على الفصائل والمؤسسات والقيادات السياسية؛ لتشكيل قيادة فلسطينية موحدة انتقالية، تتولى إدارة المرحلة الراهنة، وملء الفراغ القيادي.
المهمة الثانية: معالجة كل التداعيات الناجمة عن هذا الفراغ والتقصير القيادي تجاه المعركة الاستثنائية التي يخوضها شعبنا، سواء من خلال تعزيز الرواية الفلسطينية ونشرها، ودعم وإسناد الحراكات والحركات الداعمة للفلسطينيين ونضالهم الوطني، ومساندة شعبنا الصامد في قطاع غزة، وتوفير كل أسباب الصمود له، ومواجهة كل أشكال العدوان عليه، وملاحقة الاحتلال على كافة الأصعدة: الإعلامية والقانونية والحقوقية.
وهذا يتطلب توافقًا وتنسيقًا وتنظيمًا لجهود المجتمع المدني الفلسطيني، ومؤسساته وتجمّعاته الشعبية. هذه الجهات مدعوة بدورها لتجاوز بعض خلافاتها الداخلية، والخلافات حول من يبادر ومن يتبنى الفكرة، ومن يقود التحرك، لصالح العمل الجاد والمؤثر الذي يتناغم مع اللحظة التاريخية، ويعبر عن بطولات الشعب الفلسطيني وأصالته.
يمر الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ومشروعه السياسي بمرحلة دقيقة للغاية، تنطوي على الكثير من المخاطر والتحديات، وفي الوقت نفسه تزخر بالكثير من الفرص التي يجب استغلالها، وهذا يستلزم من الجميع، أحزابًا وقوى ونخبًا وأفرادًا، التحلي بأعلى درجات المسؤولية، وإعلاء المصلحة الوطنية فوق كل الاعتبارات.
إن شعبًا يقدم، منذ ما يقارب الثمانية أشهر، نموذجًا فريدًا في التضحية والفداء والصمود والصبر والبطولة، ويسطر كل هذه الملاحم التي نشهدها يوميًا، يستحق من الجميع نكران الذات، والارتقاء بالمواقف، والتصرف بما يمليه عليهم ضميرهم، وإنسانيتهم، وانتماؤهم الوطني.
